القائمة الرئيسية

الصفحات

 


فلسفة محاكمات منازعات الشركاء 1

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد..

لماذا "فلسفة"؟

مع الاختلاف في تفسير هذا المصطلح إلا أن اختياره جاء ليفسر طريقة الكتابة التي أحاول أن أتبعها من خلال الأسئلة التي يطرحها مصطلح "الفلسفة" كيف تفكر المحكمة؟ ما الحكمة؟ ما الحقيقة؟ ما هو الصحيح وما هو الخطأ؟

هذه الكتابات ستكون بإذن الله على شكل سلسلة في محاولة للنظر بعمق للأحكام القضائية الصادرة من المحكمة التجارية في القضايا المتعلقة بمنازعات الشركاء.

ويسعدني تلقي الملاحظات والاقتراحات، وأسأل الله التوفيق والسداد.

اللهم صلِّ على محمد..

 

حجية المخالصة في مواجهة طلب المحاسبة

في حال باع الشركاء المؤسسة محل الشراكة "شركة محاصة" وتضمن عقد البيع والتنازل "الإقرار بعدم وجود أي التزامات أو حقوق على المؤسسة" فهل يحق للشركاء بعد ذلك الرجوع على مدير الشركة وطلب محاسبته؟

تقرر المحكمة: ( ولا ينال من طلبه ندب خبرة محاسبية لفحص المستندات والميزانيات والنظام المحاسبي طيلة فترة إدارة المدعى عليه للمؤسسة ؛ فإن وكيل المدعى عليه قدم اتفاقية " بيع وتنازل" بتاريخ 10/12/ 1439 هـ موقعه من الطرفين، ونص فيها على أنه " ليس على المؤسسة أي التزامات أو حقوق وإذا اتضح غير ما ذكر في العقد فيتحمل المسئولية الطرف الثاني"، ولما كان المقرر عند الفقهاء في قواعدهم أن " الساقط لا يعود"، فإن كل الحقوق التي تقبل السقوط بسبب مسقط للحق، فإنه لا يعود بعد سقوطه، ويصبح معدوماً، فلا يعود كما لا يعود المعدوم، وقد اسقط المدعيان حقهما المالي والمعنوي لدى المدعى عليه، وجاء في المبادئ والقرارات رقم (2190) الصادرة من (المحكمة العليا): برقم (38/3/2) وتاريخ (09/05/1437 هـ) (إذا دفع أحد أطراف الدعوى بوجود مخالصة منهية لجميع ما بينهما من حسابات وانكرها الطرف الآخر، فتطلب بينة المدعي، فإن لم يكن بينة فيمين المنكر على نفي صحتها قبل أن يصار إلى المحاسبة)، وبما ان المدعى عليه قدم بينته على وجود مخالصة بين طرفي النزاع منهية لجميع ما بينهما من حسابات.)[1]

 

 

إثبات الشراكة قبل المطالبة برأس المال

في قضية تبرز مدى أهمية الجانب الشكلي للدعوى التجارية في نظر المحكمة وإن كان بعض التقعر في الجانب الشكلي أضاع الكثير من الحقوق وتسبب في إطالة أمد رجوع الحق إلى أهله، إلا أنه يظل جانب مهم تراعيه المحكمة.

 نعود للقضية والتي تتلخص فيها مطالبة المدعي برأس المال الذي دفعه إلى المدعى عليه فأنكر المدعى عليه الدعوى إلا أن المدعي أحضر البينة وهي حوالة بنكية برأس المال إلى الحساب البنكي الخاص بمؤسسة المدعى عليه فحكمت المحكمة الابتدائية بإلزام المدعى عليه برد رأس المال لثبوته بموجب الحوالة البنكية، إلا أن محكمة الاستئناف نقضت الحكم وحكمت بعدم قبول الدعوى وسببت لحكمها بــ ( فحيث أنكر المدعى عليه شراكة المدعية، وعُدمت البينة في حقها على إثبات ذلك، ولما كان طلب المدعية برد راس المال سابقا لأوانه قبل ثبوت أصل الشراكة بين الطرفين، ولما كان من المقرر فقها أنه: (إذا سقط الأصل سقط الفرع) مما يجعل مطالبة المدعية - محل الدعوى - حرية بعدم القبول قبل إثبات قيام الشراكة ابتداء بين الطرفين، والذي كان ينبغي على المدعية المضي في إثباته وتحصيله أولاً بسبق اللزوم، قبل المطالبة براس المال، أو الأرباح، لذا وبناء على ما تقدم، فإن الدائرة تنتهي إلى المنطوق أدناه، وبه تقضي. حكمت الدائرة بإلغاء الحكم الصادر من الدائرة التجارية السادسة في القضية رقم 3645 لعام 1441هـ المؤرخ في 13/5/1442هـ القاضي بإلزام المدعى عليها (...) هوية وطنية رقم (...) بأن يدفع للمدعية/ (...) هوية وطنية رقم (...) مبلغ قدرهـ مائة وثلاثون الف (130.000) ريال، والحكم مجددا بعدم قبول الدعوى.) ولذلك قد نصل إلى قناعة أن يقين المحكمة بثبوت حق المدعي من الناحية الموضوعية لا يعني بالضرورة أنها تغض الطرف عن الجانب الشكلي الذي يجب أن تكون عليه الدعوى.[2]

 

 

 

 

معضلة خصم الأرباح من رأس المال

المتأمل للأحكام القضائية التجارية يجد استقرار القضاء أثناء النظر في منازعات الشركاء وخصوصا "شركة المضاربة" على خصم الأرباح من رأس المال عند مطالبة رب المال برأس ماله بل وتتصدى المحكمة لذلك من خلال توجيه الأسئلة لرب المال إن كان استلم شيئاً من الشراكة وإن كان يظنها أرباحاً إلا أن المحكمة تخصمها من رأس المال وتحكم له بالباقي "في حال قناعتها بتفريط المضارب" والذي يؤصل لقناعة المحكمة بهذا الإجراء ما أورده الإمام الكاساني في كتابه بدائع الصنائع بتفصيله وقد جاء في تسبيب أحد الأحكام إطناب في التقعيد لهذه الفكرة فتقرر المحكمة ما نصه: ( وحيث إن المتقرر فقهاً ان الأرباح لا تستحق إلا بعد تمام رأس المال، جاء في بدائع الصنائع ما نصه: "ما يستحقه المضارب بعمله في المضاربة الصحيحة وهو الربح المسمى ان كان في المضاربة ربح، وإنما يظهر الربح بالقسمة وشرط جواز القسمة قبض رأس المال، فلا تصح قسمة الربح قبل قبض رأس المال، حتى لو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف، فربح الفا فاقتسما الربح، ورأس المال في يد المضارب لم يقبضه رب المال فهلكت الألف التي في يد المضارب بعد قسمتهما الربح، فإن القسيمة الأولى لم تصح، وما قبض رب المال فهو محسوب عليه من رأس ماله، وما قبضه المضارب دين عليه يرده إلى رب المال، حتى يستوف رب المال رأس ماله، ولا تصح قسمة الربح حتى يستوفي رب المال رأس المال"، وعليه تنتهي الدائرة إلى استحقاق المدعي للمتبقي من راس المال، حيث إن تضمين المدعى عليها رأس المال أو المتبقي منه لازم باعتبارها متصفة بالتفريط، الذي يستوجب عليها أن تتحمل التبعة، إذ أن التفريط في عرف الفقهاء ترك ما يجب فعله من التصرفات، وكان على المدعى عليها الحصول على التراخيص اللازمة قبل استلام الأموال للمضاربة بها، وبما أن نصوص الفقهاء وما استقر عليه القضاء في مثل هذا النزاع أن يكون ما استلم من أرباح جزءا من رأس المال يخصم منه، باعتبار أن التنضيض لم يتم، كما أنه لا يمكن اعتبار المبالغ المستلمة قبل التنضيض أرباحا لأنه لا يمكن الجزم باستقرار راس المال إلا بعد الانتهاء من التنضيض، وهو مالم يتم، كما أن للمدعي إقامة دعوی مستقلة في حال اثبت ان المضارب ربح ولم يخسر ونشأت مبالغ لم يتم قسمتها كما هو متفق بينهما، وعليه ولعدم تقديم البينة على تحقق الأرباح على سبيل الجزم والقطع، ولما كان الربح متوقع ودائر بين الوجود والعدم، وحيث إن المطالبة به مطالبة بأسر غيبي، وحيث إن المستقر قضاءً أن الأحكام لا تبنى على الظن والاحتمال ما يتعين معه على الدائرة رفض المطالبة بالأرباح.)[3]

إلا أن الاشكالات على ما تقرره المحكمة كثيرة ومنها:

1-  يمكن تصور قول الإمام الكاساني وتطبيقه على ما كان عليه التجار في السابق من الضرب في الأرض للتجارة بحيث يأخذ الأموال من أهل البلد ثم يضارب بها ليعود ويَرد المال لرب المال وما زاد يُقسم بين المضارب ورب المال بحسب الشرط والاتفاق، إلا أن شكل الاستثمار والمضاربة أخذ منحى آخر في الوقت المعاصر إذ أن الاستثمار والشراكة الأصل فيها الاستدامة. فإلى متى سينتظر رب المال ليطمئن إلى أن ما يسلمه من المضارب هو أرباحاً وليس جزءاً من رأس المال؟! لأن التصرف في جزء من رأس المال بعد استلامه ليس كالتصرف في الأرباح، فمعنى هذا أن رب المال سينتظر سنوات طويلة حتى يسترد رأس ماله ومن ثم يتيقن أن ما يستلمه بعد ذلك يعتبر أرباحاً ...!!

2-  هل الأصل أن ما يعطيه المضارب من مال لرب المال أثناء فترة المضاربة والاستثمار أرباحاً أم جزء من رأس المال؟ العادة جرت أن المضارب حينما يعطي المستثمر أو رب المال أي مبالغ "من غير طلب الطرف الآخر" أن المستثمر يعتبرها أرباحاً وإلا لو علم أنها جزء من رأس ماله لما رضي أن يقبضها إذ أنه لم يعط المضارب الأموال إلا لاستثمارها ونمائما لا ليعود ويؤخذها مرة أخرى. وعليه فيكون ما أخذه المستثمر إما أرباحاً حقيقية أو صورية. فإذا كانت أرباحاً حقيقية فلا يتصور أن يكون هناك أرباح إلا بعد سلامة رأس المال وكماله بيد المضارب وعليه فإذا فرّط المضارب بعد ذلك فما وجه تحميل المستثمر خطأ المضارب بالتفريط وخصم ما استلمه من أرباح؟! أما إذا كانت أرباحاً صورية: فهل نكافئ المضارب المفرط على تغريره وخداعه لرب المال أم نعامله بنقيض قصده مع سوء نيته؟!

3-  ما جرى عليه العمل في هذه المسألة يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في التسهيل لعملية النصب على المستثمرين من قبل المضاربين المحتالين بحيث يحصل المضارب على الأموال من المستثمرين بدعوى المضاربة بها ومن ثم يدفع لهم جزءا من أموالهم على اعتبار أنها أرباح تغريراً بهم ومع الإيهام بالأرباح قد يحصل على مزيد من الأموال من المستثمرين أو أي منافع أخرى وإذا ما رُفعت عليه دعوى لاسترداد رأس المال دفع بكونه رد جزءاً من رأس المال وربما دفع بالتفريط "إقراراً على نفسه سخريةً" لعلمه أن المحكمة لن تلزمه إلا بما أخذه. قد يقول قائل ماذا سيستفيد المضارب من هذه العملية مع أن المحكمة ستلزمه برد جميع المبالغ التي أخذها؟ استفاد كونه حصل على تمويل وقرض حسن من دون أي ضمانات بالخداع. والمتأمل يرى أننا أمام قضية قرض يتحقق القاضي فيها من المبالغ التي استلمت ويحكم بالباقي!! بينما كان الواجب على المحكمة باعتقادي تحقيقاً للعدالة أن يعامل المفرط بنقيض قصده وأن الأصل فيما يستلمه المستثمر أثناء فترة الشراكة أنها أرباح، وألا تأخذ المحكمة الأمور بظاهرها دون النظر في المآلات وحقيقة التعاملات.

4-  لو افترضنا أن رب المال قد استلم من الأرباح ما يعادل رأس ماله ثم فرّط المضارب بعد ذلك فهل نقول أن ليس للرب المال شيء؟! على اعتبار أنه استلم رأس المال؟ إذا كان الأمر كذلك فبماذا فرّط المضارب إذاً؟ وما هي ثمرة حكمنا عليه بالتفريط؟

5-  لو افترضنا أن رب المال أثناء فترة الشراكة استلم أكثر من رأس ماله ثم فرّط المضارب فما حكم المحكمة بهذه الحال فيما لو طُبقت القاعدة؟!

6-  الحكم بخصم الأرباح من رأس المال ينافي مقتضى الضمان عند تفريط أو تعدي المضارب لأن الحاصل أن رب المال والمضارب يتحملون بصفة مشتركة ضمان رأس المال باعتبار خصم الأرباح التي استلمها المستثمر من رأس المال واستكمال الباقي من المضارب، فكان الأولى عند الحكم بتضمين المضارب لرأس المال أن يضمنه كاملاً من دون خصم الأرباح لأن المنطق المحاسبي يقول: أن المضارب لم يوزع أرباحاً إلا بعد كمال رأس المال بيده سواء كان نقداً أو أصولاً. وعليه فإذا فرّط المضارب بعد ذلك وحكمنا عليه بالضمان فإن الأولى أنه يضمن رأس المال كاملاً الذي كان بيده.

7-  الإشكال أن المحكمة تطبق قاعدة "التنضيض" "وأن لا أرباح إلا بعد سلامة رأس المال" وتستشهد بكلام الفقهاء. ولو تأملنا في كلام الفقهاء لوجدنا أن إيراد هذه القاعدة جاء في سياق أمانة المضارب وصحة أعماله لا في سياق الحكم بتفريطه وتضمينه، فالقاعدة صحيحة ولكن تنزيلها على واقعة تفريط المضارب خطأ. فتقرير الإمام الكاساني المستشهد به في الحكم على اعتبار أمانة المضارب وصحة عمله. فالقاعدة صحيحة في حال أمانة المضارب وأن المضارب لا يؤخذ من الربح إلا بعد سلامة رأس المال. لكن ما تقرير الفقهاء في حال تفريط وتعدي المضارب بعد استلام رب المال جزءاً من الربح؟!

8-  تقرر المحكمة: " كما أنه لا يمكن اعتبار المبالغ المستلمة قبل التنضيض أرباحا لأنه لا يمكن الجزم باستقرار راس المال إلا بعد الانتهاء من التنضيض " وهذا لا يمكن تطبيقه على الأعمال والشراكات القائمة في الوقت المعاصر لأن طبيعة الشراكة تتطلب وجود الاستدامة فلا وجود لفكرة التنضيض أو التصفية لدى الشركاء إلا في حال وجود الخلاف أو انطباق أحد حالات انقضاء الشركات المنصوص عليها في نظام الشركات، كما أن تقرير المحكمة بأنه " لا يمكن الجزم باستقرار راس المال إلا بعد الانتهاء من التنضيض " غير صحيح ويخالف العرف المحاسبي وعلم المحاسبة إذ أنه يمكن الجزم باستقرار رأس المال قبل التنضيض أو التصفية.

انتهى



[1] قضايا منازعات الشركاء المنـشــورة فـي مـوقــع وزارة العــدل فـي الممـلكــة العـربيــة السـعــوديــة من شهر 7 لعام 1442هـ إلى شهر 12 لعام 1442هـ ، تصنيف وإعداد المحامي / عبد الله بن تركي الحمودي، ص 6.

[2] قضايا منازعات الشركاء المنـشــورة فـي مـوقــع وزارة العــدل فـي الممـلكــة العـربيــة السـعــوديــة من شهر 7 لعام 1442هـ إلى شهر 12 لعام 1442هـ ، تصنيف وإعداد المحامي / عبد الله بن تركي الحمودي، ص 24.

[3] قضايا منازعات الشركاء المنـشــورة فـي مـوقــع وزارة العــدل فـي الممـلكــة العـربيــة السـعــوديــة من شهر 7 لعام 1442هـ إلى شهر 12 لعام 1442هـ ، تصنيف وإعداد المحامي / عبد الله بن تركي الحمودي، ص 44 ، 45.

 

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. لعل من المشكلات على مسألة احتساب الأرباح من رأس المال هو أن المذهب الحنبلي قيد احتساب الربح من رأس المال بحالتين
    الأولى هي المقاسمة مع التنضيض.
    والثانية المحاسبة مع التنضيض.
    فإن اختلت الشروط جبرت البيعات بعضها من بعض ولو استلم رب المال مالًا على أنه ربح.
    وأما كون المضارب ثبت تعديه وتفريطه فإن كانت الأرباح المستلمة وفق الشروط فلا أرى وجها لحسابها من رأس المال
    وأما إذا لم يكن (وهو الغالب) فاحتسابهارمن رأس المل هو المذهب..
    والله أعلم

    ردحذف

إرسال تعليق

منصة محاكمة